تعاون سعودي إسرائيلي في الخفاء.. تطبيع مؤجل بانتظار “الغطاء الفلسطيني”

في الوقت الذي لا تزال فيه الرياض متمسكة في خطابها العلني بشروط “المبادرة العربية للسلام”، تكشف التطورات الميدانية والسياسية عن مسار مختلف تمامًا خلف الأبواب المغلقة: تعاون سعودي ـ إسرائيلي متنامٍ، لا يحتاج إلى إعلان رسمي كي يمضي قُدمًا، بل يعمل وفق صيغة “التطبيع غير المعلن” الذي يمنح لكلا الطرفين ما يريدان دون تكاليف سياسية فورية.
تسليط الضوء على هذا التباين بين الظاهر والمخفي جاء عبر تصريح المفاوض الأميركي السابق آرون ديفيد ميلر لصحيفة فايننشال تايمز حين قال إن، “ولي العهد السعودي لم يُلغِ فكرة التطبيع، لكنه لا يشعر بأي استعجال للمضي فيها، نظرًا إلى أن التعاون الاستخباراتي والأمني يعمل بكفاءة عالية خلف الكواليس، مقابل تكاليف سياسية باهظة لأي علاقة رسمية من دون دولة فلسطينية”.
هذا التصريح يختصر طبيعة اللحظة: تطبيع مؤجل سياسيًا، لكنه قائم فعليًا في الملفات الأمنية والعسكرية والتقنية.
تحالف يتقدم بصمت
تتصرّف السعودية اليوم بوصفها قوة إقليمية تسعى لتثبيت نفوذها عبر مزيج من البراغماتية السياسية والانفتاح المحسوب. فبينما يتمسّك المسؤولون السعوديون بخطاب الدعم لـ“الحقوق الفلسطينية”، تُظهر الوقائع على الأرض أنّ التعاون مع إسرائيل لم يعد استثناءً أو خطوة ظرفية، بل مسارًا مستمرًا ومتوسعًا.
خلال السنوات الماضية، كشفت عدة تقارير غربية عن اجتماعات سرية بين مسؤولين سعوديين وإسرائيليين، بعضها برعاية أميركية مباشرة، إضافةً إلى تعاون في مجالات المراقبة الإلكترونية والتكنولوجيا الأمنية، خصوصًا في ما يتعلق بمواجهة “التهديد الإيراني”.
وتذهب تقديرات استخباراتية إلى أن الرياض استفادت من برمجيات تجسسية متقدمة مثل “بيغاسوس”، ومن خبرات إسرائيل في مجالات الأمن السيبراني والتعقب والمراقبة.
هذه الشبكة المتنامية من التعاون جعلت إسرائيل حاضرة — بصورة غير مباشرة — داخل المنظومة الأمنية الخليجية، رغم غياب أي اتفاق سلام أو علاقات دبلوماسية معلنة.
معادلة محمد بن سلمان: المصلحة أولًا
لا ينظر ولي العهد السعودي إلى التطبيع بوصفه التزامًا سياسيًا أو أخلاقيًا، وإنما بوصفه ورقة تفاوض مع واشنطن.
فهو يدرك أن الإعلان الرسمي عن التطبيع يمكن أن يفتح الأبواب أمام:
- اتفاق دفاعي مع الولايات المتحدة
- ضمانات أمنية تتعلق بالردع الإيراني
- صفقات تكنولوجية وعسكرية متقدمة
- تعزيز مكانته الدولية كحليف استراتيجي لواشنطن
لكنّ الإعلان الرسمي مكلف داخليًا. فالسعودية تعرف حجم الرفض الشعبي العربي للتقارب مع إسرائيل، لا سيما بعد المجازر في غزة، وتدرك أن أي خطوة علنية ستؤدي إلى شرخ واسع في الداخل السعودي والعالم الإسلامي.
لكنه في نفس الوقت يرى أن التطبيع السري يمنحه فوائد كبيرة دون أن يضطر لدفع ثمن سياسي مباشر.
ازدواجية الخطاب السعودي
من جهة، تصرّ الرياض علنًا على ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعلى الالتزام بمبادرة السلام العربية.
ومن جهة أخرى، تعمل خلف الكواليس على فتح قنوات تنسيق مع إسرائيل، وتشارك في إعادة تشكيل المشهد الأمني الإقليمي بما يخدم تحالفات جديدة تُركّز على مواجهة إيران أكثر مما تُركّز على دعم الفلسطينيين.
السعودية لم تتخذ موقفًا داعمًا لتجميد موجة التطبيع التي قادتها الإمارات والبحرين عام 2020، بل بدا أنها تراقب التجربة عن قرب وتستفيد من نتائجها.
وفي الإعلام السعودي، بدأت لغة جديدة تتسلل تدريجيًا — وإن بحذر — تُهيّئ الرأي العام لفكرة “شراكة أمنية مع إسرائيل” ضد “الخطر الإيراني”.
أما إسرائيل، فتلتزم الصمت الكامل. فهي تدرك أن إخراج العلاقة إلى العلن قد يضرّ بمصالحها، وأن بقاءها في “المنطقة الرمادية” يخدم الطرفين أكثر مما يخدم التطبيع الرسمي.
تطبيع بلا ثمن.. حتى اللحظة
تحاول السعودية تقديم نفسها باعتبارها قوة إقليمية مرنة قادرة على التعامل مع الجميع: إسرائيل، إيران، روسيا، الولايات المتحدة.
لكن هذه البراغماتية، مهما بدت واقعية، تكشف في الوقت نفسه عن تآكل الموقف العربي التقليدي تجاه فلسطين، وتحويل “حلّ الدولتين” إلى مجرد شعار.
فالواقع يثبت أن التطبيع قائم فعلاً — أمنًا، استخباراتً، وتكنولوجيا — دون أي ثمن سياسي أو التزام تجاه الفلسطينيين.
والإعلان الرسمي سيكون مجرد تصديق متأخر على علاقة قائمة منذ سنوات.
لكن هذا النهج يحمل مخاطره:
- الغضب الشعبي العربي والسعودي المتصاعد بعد جرائم غزة
- فقدان السعودية لدورها التاريخي كقائدة للعمق العربي والإسلامي
- تعزيز الانقسامات الإقليمية بدل صياغة موقف عربي موحّد
- رهان محفوف بالمخاطر على تحالف مع دولة تمارس الاحتلال والقمع
في النهاية، قد تجد السعودية نفسها أمام واقع صعب: لقد تعاونت كثيرًا في الخفاء، لكنها لم تكسب نفوذًا استراتيجيًا حقيقيًا، ولم تحافظ على مكانتها الرمزية عربيًا وإسلاميًا.
وهكذا، يصبح التطبيع العلني — إن حدث — مجرد خاتمة رمزية لمسار بدأ منذ سنوات بعيدًا عن الأنظار، بينما يبقى “الغطاء الفلسطيني” مجرد شرط لتجميل خطوة محسومة سلفًا.







