“بيبسي سبب الترحيل”.. شواهد صادمة على حظر الإمارات كل أشكال التضامن مع غزة

تكشف الشهادات والوثائق عن الوجه الحقيقي لسياسات القمع التي تمارسها السلطات الإماراتية ضد أي شكل من أشكال التضامن مع غزة. فبينما تروّج أبوظبي لنفسها كـ”واحة تسامح”، تُظهر الوقائع أن البلاد تحولت إلى منطقة يُجرَّم فيها حتى التعاطف الإنساني مع ضحايا الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل منذ أكثر من عامين.
الصحيفة نشرت مجموعة من القصص التي تؤكد أن الإمارات لا تكتفي بحظر المظاهرات أو تكميم الأفواه السياسية، بل تتعامل مع أبسط الإشارات الرمزية كتهديد للأمن القومي، يصل إلى حد الترحيل القسري أو سحب الإقامة.
ترحيل بسبب “بيبسي”.. من المقاطعة إلى المنفى
من بين القصص الصادمة التي وثقتها الصحيفة، قصة مهندس اتصالات فلسطيني يُعرف بالحروف الأولى “س.م”، أمضى أكثر من عشرين عاماً يعمل داخل الإمارات، قبل أن يجد نفسه مطروداً مع أسرته لمجرد رفضه شرب زجاجة “بيبسي” في احتفال بسيط داخل مؤسسة حكومية بأبوظبي.
حين قال أمام زملائه: “بيبسي مقاطعة”، في إشارة إلى الحملات الشعبية الرافضة لدعم الشركات المتورطة في تمويل إسرائيل، تحوّل الموقف البسيط إلى قضية أمنية. خلال يومين فقط، تلقى استدعاءً من جهة أمنية، وهناك تم إبلاغه بأنه “غير مرغوب فيه” ويجب عليه مغادرة البلاد فوراً.
اضطر الرجل لتصفية أعماله وسحب أطفاله من مدارسهم ومغادرة الإمارات نحو الأردن، تاركاً وراءه أكثر من عقدين من الاستقرار المهني والاجتماعي. بالنسبة لكثيرين، أصبحت قصة “بيبسي” مثالاً على الجنون الأمني الذي يحكم البلاد منذ اندلاع حرب غزة.
ملاحقة رموز التضامن.. حتى “المنشورات الخاصة”
تكشف الشهادات أن حالة المهندس ليست استثناءً، بل جزء من حملة قمع متصاعدة. فقد نقلت الصحيفة عن مصادر مطلعة أن فلسطينية مقيمة في دبي تلقت أمراً بالمغادرة خلال 48 ساعة فقط، بعد أن نشرت على “إنستغرام” نعياً لأحد أقربائها من الصحفيين الذين استشهدوا في غزة.
كما حذرت أجهزة الأمن عدداً من المقيمين العرب من نشر أي محتوى “يُفسر كدعم للمقاومة أو تعاطف مع ضحايا الحرب”، بل وصل الأمر إلى مراقبة الملابس والإكسسوارات، إذ جرى تحذير بعض العاملين من ارتداء الكوفية الفلسطينية أو تعليق علم فلسطين داخل سياراتهم أو منازلهم.
وفي حالات أخرى، طُلب من مقيمين إزالة صور لخارطة فلسطين من هواتفهم المحمولة، خشية اعتبارها “رمزاً سياسياً معادياً”.
التحقيق مع ناجية من غزة.. وابتزاز موظفة
إحدى أكثر القصص دلالة هي ما روته مصادر الصحيفة عن سيدة فلسطينية تحمل إقامة إماراتية، كانت قد نجت من القصف في غزة ووصلت إلى دبي. فور دخولها المطار، تم اقتيادها للتحقيق، حيث فُحص هاتفها بدقة وتمت مراجعة رسائلها على “واتساب” و”تلغرام”.
التحقيق استمر ساعات، قبل أن تُبلَّغ السيدة بضرورة “الامتناع عن أي نشاط تضامني مع غزة”، حتى لو كان مجرد منشور داخل مجموعة مغلقة.
وفي واقعة أخرى، استدعيت سيدة عربية تعمل في مدرسة خاصة بأبوظبي للتحقيق، وعُرض عليها التعاون مع جهاز أمني مقابل السماح لها بالبقاء في البلاد. طُلب منها أن “ترصد مواقف زملائها” وتقدم تقارير دورية عن أي نشاط أو رأي يخص الحرب. وعندما رفضت، أُبلغت بقرار ترحيلها فوراً.
رقابة رقمية ومجتمعية خانقة
هذه الممارسات لم تعد محصورة في الدوائر الأمنية، بل تحولت إلى رقابة مجتمعية متكاملة. فقد أفاد تاجر عربي مقيم في دبي بأن “الخوف أصبح جزءاً من الحياة اليومية، فحتى المحادثات الخاصة مراقبة، وأي تعليق على منشور قد يعرّض صاحبه للتحقيق أو الترحيل”.
وأضاف: “اضطررت لتركيب كاميرات مراقبة في مصنعي وربطها بنظام أمني تابع لجهة رسمية، حتى أستطيع تجديد التراخيص”.
وأشار إلى أن مناخ الاستثمار في البلاد أصبح “طاردًا وغير آمن”، قائلاً: “نخشى أن نخسر كل شيء بسبب كلمة أو وشاية من زميل”.
من التطبيع إلى تكميم الأفواه
يرى مراقبون أن تصاعد هذه الانتهاكات جاء بعد توقيع اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل عام 2020، حيث أعادت السلطات تشكيل منظومتها الأمنية بما ينسجم مع التحالف الجديد.
لكن مع اندلاع حرب الإبادة في غزة في أكتوبر 2023، بلغ القمع ذروته. فكل تعاطف مع الفلسطينيين يُفسر كـ”عداء لإسرائيل” وبالتالي “عداء للإمارات”.
أصبحت البلاد، التي تصف نفسها بـ“المنارة الإنسانية”، تُعامل أبسط مظاهر التضامن كجريمة تستوجب العقاب، بينما تفتح شاشاتها ومؤسساتها أمام حملات التطبيع والدعاية الإسرائيلية.
قمع باسم “الأمن” وخرق للقانون الدولي
يؤكد حقوقيون أن هذه الممارسات تمثل انتهاكاً صارخاً للمواثيق الدولية التي تكفل حرية التعبير والضمير، وعلى رأسها المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
ويقول أحد المحامين الحقوقيين المقيمين في أوروبا: “ترحيل أشخاص بسبب منشور أو رأي سياسي أو حتى رفض منتج تجاري، يرقى إلى جريمة تمييز سياسي ومعاقبة على الفكر”.
ويضيف أن هذه السياسات تهدف إلى “خلق مجتمع صامت خاضع للرقابة الكاملة، حيث الولاء للحاكم مقدّم على كل قيمة إنسانية أو دينية”.
“واحة التسامح” تتحول إلى سجن صامت
بينما تُنفق الإمارات ملايين الدولارات على الترويج لصورتها كدولة “تعايش وتسامح”، تكشف هذه الوقائع عن واقع معاكس تماماً: مجتمع يعيش في ظل خوف دائم من الكلمة، والهمس، والرمز.
من رفض زجاجة “بيبسي” إلى منشور نعي على “إنستغرام”، أصبحت الإشارات الإنسانية تُعامل كجرائم كبرى، تُكلف أصحابها منازلهم وأعمالهم واستقرارهم.
وفي ظل هذا القمع المتزايد، يتبدى السؤال الأخلاقي والسياسي الأكبر:
هل يمكن لدولةٍ تحظر التضامن مع المقهورين أن تبقى واحة للتسامح، أم أنها صارت شريكاً فعلياً في صناعة الصمت الذي يغطي جرائم الإبادة في غزة؟







