بعد عام.. طوفان الأقصى شكل ضربة موجعة لمعسكر المطبعين العرب
بعد معاهدة السلام مع مصر في 1979، والمعروفة بـ”كامب ديفيد”، واتفاقية “وادي عربة” للسلام مع الأردن في 1994… عاد قطار التطبيع بين إسرائيل والدول العربية ليقلع من جديد في 2020 تحت رعاية أمريكية (خلال فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب)، في إطار معاهدة أبراهام للسلام، حاملا معه الإمارات، البحرين فالسودان ثم المغرب.
وهذا، في سياق موجة جديدة من التقارب غير المسبوق بين تل أبيب وعواصم عربية، خلفت الكثير من ردود الفعل وسط الشعوب العربية والإسلامية، التي عارضت عموما هذه الخطوة، مستحضرة القضية الفلسطينية ونقاط الاستفهام الكثيرة التي تحيط بمستقبلها، واعتبرت أنها كانت على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، بالرغم من التعهدات التي أطلقتها هذه الدول بأن هذه القضية تظل في صلب تحركاتها.
لكن عملية التطبيع لقيت ترحيبا واسعا في الغرب لاسيما من طرف راعيتها الولايات المتحدة، حيث قال دونالد ترامب عند توقيع المعاهدة: “يوم غير عادي للعالم، سيضع التاريخ في مسار جديد”، قبل أن يضيف: “بعد عقود من الانقسام والصراع، نحتفل بفجر الشرق الأوسط الجديد”.
تلقى مسلسل التطبيع هذا ضربة موجعة مع هجوم “طوفان الأقصى” لحماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 قبل أن ترد تل أبيب عسكريا عبر حرب “السيوف الحديدية”، والتي خلفت “معاناة مروعة” كما وصفها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس.
وتسبب هجوم حماس بمقتل 1189 شخصا في الجانب الإسرائيلي، معظمهم مدنيون، بحسب تعداد لوكالة الأنباء الفرنسية. ويشمل هذا العدد رهائن قضوا خلال احتجازهم في قطاع غزة. وخُطف خلال الهجوم 251 شخصا، لا يزال 97 منهم محتجزين، بينهم 33 يقول الجيش إنهم لقوا حتفهم. فيما قتل في غضون نحو عام أكثر من 40 ألف فلسطيني وأصيب الآلاف حسب إحصاءات لوزارة الصحة في غزة. كما تم تدمير شبه كلي للقطاع الذي يحتاج إلى مليارات الدولارات لإعادة بنائه. وأفاد تقرير أممي في مايو/أيار أن العملية قد تستغرق حتى 2040 على الأقل وقد يطول الأمر لعدة عقود.
ويجمع المهتمون اليوم أن هذه الحرب حكمت على مسلسل التطبيع بنوع من الجمود، وأدخلته ثلاجة الانتظار على أكثر من مستوى، لاسيما مع التنديد الواضح للدول المطبعة بالوضع في القطاع، ودعواتها المتعددة لوقف الحرب مع تمسكها بحق الشعب الفلسطيني في إنشاء دولة.
هذا الواقع الفلسطيني الأليم لم يشجع حكومات الدول العربية المطبعة في الاستمرار في نهج سياسة دبلوماسية منفتحة كليا على إسرائيل. وبادرت في خضم الضغط الشعبي والوضع الفلسطيني الكارثي إلى الخروج بمواقف قوية وصارمة تجاه إسرائيل، لاسيما مصر والمغرب والأردن في توازن صعب، يمكّنها من الحفاظ على شعرة معاوية مع الدولة العبرية، ويقنع في الوقت نفسه شعوبها بأنها ترفض ممارسات الاحتلال.
“فالحرب في غزة أوقفت مؤقتا التطبيع العربي مع إسرائيل…ويبدو واضحا أن البرودة في العلاقات بين الدول المطبعة وإسرائيل مرتبطة بموقف من حكومة نتانياهو واليمين المتطرف أساسا، وهو ما يفسر قرارات طلب دول عربية من حكومة تل أبيب تأجيل إرسال السفراء أو الدعوة إلى المغادرة”، يقول المحلل السياسي الأردني عمر الرداد وهو خبير أمن استراتيجي/ مدير عام الطريق الثالث للاستشارات الاستراتيجية.
توترت العلاقات بين الأردن وإسرائيل على خلفية الحرب في غزة. واستدعت عمّان مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الماضي سفير المملكة لدى إسرائيل، كما أبلغت إسرائيل بعدم إعادة سفيرها الذي سبق أن غادر المملكة.
واتهم وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إسرائيل بـ”دفع المنطقة كلها إلى هاوية حرب إقليمية”، مضيفا أن “هذه الحرب سيكون لها انعكاسات خطيرة ليس فقط على المنطقة بل على العالم برمته، لذا على العالم كله أن يتحرك فورا للجم هذه العدوانية لأن الدمار سيطال الأمن والسلم الدوليين”.
وفي 17 سبتمبر/ أيلول أكدت الأردن ومصر رفضهما التام لتصفية القضية الفلسطينية أو تحويل الأراضي الفلسطينية إلى مناطق غير قابلة للحياة، بهدف تهجير الفلسطينيين. وهذا في اتصال هاتفي بين الملك عبد الله الثاني والرئيس السيسي، وفق بيان للمتحدث باسم الرئاسة المصرية أحمد فهمي.
أما القاهرة التي كانت أول المطبعين العرب مع إسرائيل، فما فتأت تلعب دور الوسيط إلى جانب الدوحة وواشنطن، لتقريب وجهات النظر بين إسرائيل وحماس وإيجاد مخرج من هذه الحرب الدامية دون أن يلوح في الأفق أي أمل في المستقبل لإنهائها.
ولم تتردد مصر في التوجه بلهجة حادة لإسرائيل في محطات مختلفة منذ اندلاع الحرب، آخرها كانت جراء الخلاف بين تل أبيب والقاهرة حول محور فيلادلفيا، الذي يسعى نتانياهو لوضع اليد عليه، معتبرا أنه “شريان الحياة لحماس”. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي في تصريح له: “لقد حرصنا على أن لا يدخل دبوس إلى غزة من جانبنا، لكنهم سلحوا أنفسهم عبر محور فيلادلفيا ومصر”.
ولم يتأخر رد القاهرة على محاولة نتانياهو “الزج باسم مصر لتشتيت انتباه الرأي العام الإسرائيلي”، وعرقلة جهود الوساطة للتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار.
واعتبر بيان لوزارة الخارجية المصرية أن التصريحات تستهدف: “تبرير السياسات العدوانية والتحريضية”، مشددا على حرص مصر على مواصلة “دورها التاريخي في قيادة عملية السلام” في المنطقة.
ورأت وسائل إعلام إسرائيلية أن القاهرة تتلكأ في اعتماد سفير بلادها الجديد بعد ما أنهت السفيرة السابقة أميرة أورون مهمتها، حيث “لم يحصل حتى الآن على موافقة مصر على تعيينه”، حسب ما ذكرته سكاي نيوز نقلا عن موقع “كيكار” الإسرائيلي.
وإضافة إلى مصر والأردن، كان المغرب واضحا في موقفه تجاه الوضع في غزة. ففي شهر مايو/ أيار، طالب الملك محمد السادس بضرورة الوقف الفوري “للعدوان غير المسبوق”.
وقال العاهل المغربي: “قلوبنا تدمي لوقع العدوان الغاشم على غزة، الذي جعل الشعب الفلسطيني الأبي يعيش أوضاعا بالغة الخطورة، تشكل وصمة عار على جبين الإنسانية”، مشددا: “نكرر بإلحاح، مطلبنا بضرورة الوقف الفوري والمستدام والشامل لهذا العدوان غير المسبوق، والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية في قطاع غزة بأكمله”.
ودعا الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي المعارض عبد الإله بنكيران السبت 22 سبتمبر/ أيلول إلى إعادة النظر في اتفاق التطبيع بين بلاده وإسرائيل، معتبرا أنه “لم يعد له مبرر أخلاقي”. علما أن حزبه في شخص رئيس الوزراء السابق سعد الدين العثماني هو من أشرف على عملية التطبيع.
وقال بنكيران في أوج الضربات الإسرائيلية على حزب الله في لبنان: “حتى وإن كان الناس ساكتين فإنهم يشعرون بأن هذه الرصاصات اخترقت أجسادهم وأنها قتلت إخوانهم”. في وقت تسمح فيها الرباط بتنظيم مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، والتي تلقى مشاركة شعبية واسعة.
وعطلت الحرب في غزة مؤقتا التقارب المغربي الإسرائيلي في عدة مجالات عسكرية وأمنية كبيع طائرات دون طيار وبرامج تجسس، وأخرى علمية وأكاديمية.
ولم تخرج علاقة الإمارات بإسرائيل عن السياق العام الذي توجد فيه اليوم علاقات تل أبيب مع العواصم العربية المطبعة، مؤكدة مواقفها الثابتة من القضية الفلسطينية، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية، عبد الله بن زايد، عندما نشرت الصحافة الإسرائيلية تسريبات بأن بلاده على استعداد لإرسال جنودها إلى غزة، حيث نفى ذلك نفيا كليا، معتبرا أن الأمر مشروط بـ”إنهاء الاحتلال”.
وكانت أبوظبي أكثر حدة في خطابها تجاه نتانياهو في وقت سابق بشأن نفس الموضوع، حيث غرد الوزير: “الإمارات تشجب بشدة تصريحات رئيس الوزراء نتانياهو في كل ما يتعلق بدعوة الإمارات للمشاركة في إدارة قطاع غزة الذي هو تحت احتلال إسرائيلي، وليس له أي صلاحيات لاتخاذ أي قرار يتعلق بالإمارات”.
وعبرت الإمارات عن قلقها البالغ من الهجمات التي شنتها إسرائيل على جنوب لبنان، ودعت “إلى ضرورة تضافر الجهود الدولية لوقف القتال لمنع سفك الدماء، وأن ينعم المدنيون بالحماية الكاملة بموجب القانون الدولي والمعاهدات الدولية”.
كما أكدت على “موقف دولة الإمارات الثابت في رفض العنف والتصعيد والفعل وردود الفعل غير المحسوبة”، مشددة “على ضرورة حل الخلافات عبر الوسائل الدبلوماسية بعيدا عن لغة المواجهة والتصعيد”.
وإن كانت مواقف مصر والمغرب والإمارات ظاهرة للعيان، اكتفت البحرين والسودان خصوصا بمتابعة التطورات. ولم يصدر من الخرطوم التي تعيش اقتتالا داخليا بين الجيش وقوات الدعم السريع ما يكشف وجهة نظرها حول الوضع. ويعود آخر موقف لها إلى العام الماضي على إثر أول زيارة لوزير خارجية إسرائيلي للسودان إيلي كوهين، أكد بموجبها الطرفان “المضي قدما في تطبيع العلاقات”.
وبخصوص البحرين، فبعد اندلاع الحرب في غزة وجه العاهل البحريني حمد بن عيسى آل خليفة، تعليمات لتقديم مساعدات عاجلة للشعب الفلسطيني من خلال الوكالة الأممية الأونروا.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أعلن البرلمان البحريني مغادرة السفير الإسرائيلي للبلاد وعودة سفير المنامة من تل أبيب ووقف العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، ما أثار جدلا في البحرين بحكم أن الأمر من اختصاص الملك.
وردا على ذلك، أعلن “المركز الوطني للاتصال” الحكومي في بيان أن عودة السفير البحريني تمت “منذ فترة”، ومغادرة السفير الإسرائيلي للمنامة كان “منذ فترة” كذلك، دون تقديم المزيد من التفاصيل أو الإشارة إلى موضوع وقف العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.
والبحرين هي الدولة العربية الوحيدة التي تشارك في تحالف “حارس الازدهار” إلى جانب دول أخرى، والذي تقرر إنشاؤه عقب سلسلة من الهجمات، شنها الحوثيون على السفن التجارية التي تعبر مضيق باب المندب، ويعتبرها الحوثيون أهدافا مشروعة، حيث يقولون إنها سفن إسرائيلية أو متجهة لإسرائيل.
كانت السعودية آخر بلد عربي يحضر أوراقه لركوب قطار التطبيع، إلا أن الوضع في غزة عطل العملية، ولا تبدي الرياض في الوقت الحالي أي حماس في الالتحاق بنادي المطبعين العرب بل ربطت أي تحرك بهذا الشأن بالقضية الفلسطينية.
وأعرب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في خطاب ألقاه أمام مجلس الأمة يوم 18 سبتمبر/ أيلول عن رفض المملكة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل دون قيام دولة فلسطينية، منددا في الوقت نفسه بـ”جرائم سلطة الاحتلال الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني”.
وأضاف “لن تتوقف المملكة عن عملها الدؤوب، في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ونؤكد أن المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل من دون ذلك”. وتوجه ولي العهد “بالشكر إلى الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية تجسيدا للشرعية الدولية، ونحث باقي الدول على القيام بخطوات مماثلة”.
وقال المحلل السياسي السعودي سليمان العقيلي لوكالة الأنباء الفرنسية تعليقا على خطاب ولي العهد إن “مواقف نتانياهو المتطرفة والمتشددة وغير المسؤولة خلال الحرب في غزة هي التي جعلت الأمير محمد يصل إلى هذا القرار الحازم”. وأضاف أن “موقف المملكة الثابت منذ فترة طويلة يربط أي تقدم في العلاقات مع إسرائيل بحصول الفلسطينيين على حقهم في دولة مستقلة”.
وكانت مؤشرات التقارب بين البلدين لاحت في سماء دبلوماسية الرياض وتل أبيب قبل نحو عام، عندما صرح ولي العهد بأن التطبيع مع إسرائيل “يقترب كل يوم أكثر فأكثر”. كما أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو حينها من على منبر الأمم المتحدة أن بلاده على “عتبة” إقامة علاقات مع السعودية.