المغرب بين الواقعية السياسية وحرارة الشارع.. دعم فلسطين لا يُقايَض بالتطبيع

رغم كل ما فرضه واقع ما بعد “اتفاقات أبراهام” من تحولات استراتيجية على مستوى المنطقة، يواصل المغرب تقديم نموذج استثنائي في التعامل مع القضية الفلسطينية، حيث تنجح الرباط في الموازنة الدقيقة بين براغماتية العلاقات الدولية ووجدان شعبي لا يساوم على القدس وفلسطين.
فبينما تمضي الدولة في توطيد علاقاتها مع إسرائيل منذ إعلان استئناف العلاقات نهاية عام 2020، لا تزال شوارع المدن المغربية تضج أسبوعيًا بالهتافات لفلسطين، ولا تزال راية الأقصى ترفرف إلى جانب العلم المغربي في قلب الرباط وطنجة والدار البيضاء وأكادير، في مشهد يعكس معادلة معقدة: التطبيع لا يعني التخلي… بل خطاب مزدوج يختبر قدرة الدولة على الحفاظ على التوازن.
الشارع المغربي: حرارة لم تنطفئ رغم برودة السياسة
منذ السابع من أكتوبر 2023، ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، خرج عشرات الآلاف من المغاربة في مسيرات شبه أسبوعية، تعكس استمرارية حضور فلسطين في الوعي الجمعي المغربي، وتتحدى الصورة النمطية عن أن التطبيع يُطفئ جذوة التضامن الشعبي.
المغاربة، من مختلف الخلفيات السياسية والنقابية والمدنية، لم يترددوا في رفع شعارات رافضة للتطبيع، بل ومطالِبة بقطعه، دون أن تواجههم ملاحقات أمنية أو تضييف في الحريات. وهو ما يعكس – وفق مراقبين – مرونة سياسية مغربية قل نظيرها في المنطقة، تسمح بتعايش موقف رسمي واقعي مع نبض شعبي عاطفي وحاد.
“التطبيع المغربي”: ورقة نفوذ لا خضوع
رغم الانتقادات التي طالت المغرب عقب استئناف العلاقات مع إسرائيل، حاولت الرباط تقديم قراءة دبلوماسية مغايرة، تقوم على أن التطبيع ليس خضوعًا، بل أداة نفوذ وسيادة تُوظّف لتقديم الدعم الإنساني والسياسي لفلسطين من موقع فاعل لا متفرج.
فمنذ انطلاق العدوان الإسرائيلي على غزة، كان المغرب من أوائل الدول العربية التي أرسلت مساعدات طبية وغذائية عاجلة عبر قوافل إنسانية بادرت بها مؤسسة محمد الخامس للتضامن، وكان أول من فتح معبرًا بريًا نحو القطاع في خطوة رمزية ذات دلالة سياسية وإنسانية بالغة.
وبينما واصل البعض اتهام الرباط بـ”المقايضة”، جاء هذا التحرك الإنساني الرسمي ليؤكد أن العلاقة مع تل أبيب لم تكن بوابة لصمت، بل نافذة مفتوحة لتمرير الدعم الفلسطيني بصوت مسموع.
براغماتية محسوبة أم موقف استراتيجي دائم؟
التحليل الموضوعي للتجربة المغربية يُظهر أن الدولة لم تغلق الباب أمام الواقعية السياسية، لكنها لم تساوم في المقابل على ثوابتها التاريخية. بل يمكن القول إن المغرب يسعى إلى إنتاج نموذج سياسي عربي ثالث، لا ينتمي لمحور المقاومة المتصلب، ولا لمحور التطبيع الكامل والانغماس في المشروع الإسرائيلي.
فهو من جهة يُحافظ على قنوات مفتوحة مع إسرائيل لتعزيز مصالحه الجيوسياسية والاقتصادية، خاصة في ظل التنافس الإقليمي المتصاعد، ومن جهة أخرى يُبقي القضية الفلسطينية حيّة في خطابه الرسمي وفعله الميداني، سواء من خلال الدعم أو الموقف السياسي المتوازن.
دعم لا يُقاس بالكلمات
بعيدًا عن البيانات الرنانة والمزايدات الإعلامية التي تصدر أحيانًا من دول ترفض التطبيع شكلًا وتُمارسه ضمنيًا، يبدو أن دعم المغرب للقضية الفلسطينية يُترجم إلى أفعال ملموسة، داخل المؤسسات وخارجها.
فالملك محمد السادس لا يزال يرأس لجنة القدس، والدولة لا تزال تُؤمّن غطاءً سياسيًا لتعبيرات الشارع، بينما تبقى حرية التظاهر والتعبير عن الرفض السياسي للتطبيع مكفولة دون قمع، وهو ما لا يتوافر حتى في بعض الدول التي تُعلن موقفًا رافضًا علنيًا لتل أبيب، بينما تُضيّق على أي صوت شعبي مؤيد لفلسطين.
المغرب يكتب معادلته الخاصة… التطبيع ممكن والدعم لفلسطين لا يُساوَم
قد يرى البعض في الموقف المغربي تناقضًا، لكنه في الحقيقة يعكس واقعية سياسية مع إصرار على الثوابت التاريخية. فالتطبيع عند الرباط ليس نهاية المطاف، بل وسيلة تكتيكية توظَّف لتحقيق مكاسب وطنية دون التخلي عن القضايا المصيرية.
وإن كان العرب قد اختلفوا في قراءة المشهد، فإن المغرب يبدو واضحًا في رسالته:
من الممكن أن نصافح إسرائيل… لكن دون أن نترك يد فلسطين.