السعودية بين الضغوط الأمريكية ومستنقع التطبيع: هل تبيع الرياض القضية الفلسطينية؟

منذ سنوات، بدأت المملكة العربية السعودية خطواتها نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، مستندة إلى تصريحات متناقضة وسياسات متذبذبة تثير جدلاً واسعاً بين مؤيدي القضية الفلسطينية. وبينما يعيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب دخوله إلى الساحة السياسية في محاولة لاستكمال مشروع التطبيع الإقليمي، يبدو أن النظام السعودي يستعدّ لتقديم تنازلات جديدة تحت غطاء “حل الدولتين”، في وقت يستمر الاحتلال في نسف هذا الحل على أرض الواقع.

سياسات مزدوجة: حديث عن فلسطين وتطبيع في الخفاء

على الرغم من الادعاء العلني للسعودية بأنها متمسكة بحل الدولتين، تظهر الحقائق عكس ذلك. إذ كانت السنوات الماضية حافلة بالتحركات السرية والعلنية التي تشير إلى تقارب سعودي-إسرائيلي غير مسبوق. 

ومع تنصيب ترامب في ولايته الأولى، بدأ الحديث علناً عن احتمالية تطبيع العلاقات، خاصة في ظل نجاحه في فرض “اتفاقيات أبراهام” التي فتحت الأبواب أمام الإمارات والبحرين والمغرب والسودان للتطبيع الكامل.

تُعتبر المملكة العربية السعودية “الجائزة الكبرى” لأي اتفاق تطبيع في الشرق الأوسط. فهي تحتل مكانة محورية في العالمين العربي والإسلامي، ويمثل تحالفها مع الكيان الصهيوني انقلاباً استراتيجياً في ميزان القوى في المنطقة. ولهذا السبب، بذلت إدارة ترامب جهوداً مضاعفة خلال ولايتها الأولى لإقناع الرياض بتوقيع اتفاقيات مشابهة. لكن على الرغم من الضغوط المكثفة، تأخر الإعلان الرسمي عن هذه الخطوة، خاصة مع تزايد الرفض الشعبي في السعودية وخارجها.

ترامب ونتنياهو: أجندة توسعية تحت مظلة التطبيع

عودة دونالد ترامب إلى الواجهة السياسية في الولايات المتحدة دفعت مجدداً بمسألة التطبيع السعودي-الإسرائيلي إلى الصدارة. الرئيس الأميركي السابق، الذي لا يُخفي ميوله الواضحة لدعم الكيان الصهيوني، يعتمد على علاقته الشخصية بولي العهد السعودي محمد بن سلمان لدفع الرياض نحو التطبيع الكامل.

ومن جهته، يواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الضغط لتحقيق هذا الهدف، في إطار سعيه لتوسيع نطاق الاحتلال. بل إن نتنياهو سخر من إصرار السعودية على إقامة دولة فلسطينية مستقلة، مقترحاً أن تُقام هذه الدولة على الأراضي السعودية، وهو تصريح استفزازي كشف نوايا الاحتلال الحقيقية وسعيه لفرض أمر واقع يكرّس احتلاله للأراضي الفلسطينية.

إغراءات أميركية وابتزاز سياسي

تعتمد الإدارة الأميركية الحالية، كما سابقتها، على تقديم حزمة من الإغراءات السياسية والاقتصادية للسعودية مقابل التطبيع. تشمل هذه الإغراءات تعزيز الاستثمارات الأميركية في المملكة، دعم رؤية 2030، بيع أسلحة متقدمة، والموافقة على برنامج نووي مدني سعودي. في المقابل، تضع الولايات المتحدة شرطاً أساسياً يتمثل في تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي كجزء من هذه الاتفاقات.

ولكن الجانب السعودي يبدو حذراً في المضي قدماً بهذه الخطوة، ليس بسبب التزامه بالقضية الفلسطينية، وإنما خشية ردود الفعل الشعبية والإقليمية التي قد تنجم عن التطبيع. فالمجازر الإسرائيلية المتواصلة ضد الفلسطينيين، خاصة في قطاع غزة، وضعت النظام السعودي في موقف محرج أمام العالم العربي والإسلامي، مما دفعه إلى التمسك علناً بشعار “حل الدولتين”، على الرغم من غياب أي تحركات جدية لتحقيق هذا الحل.

العقبات أمام التطبيع

مع كل المحاولات الأميركية والإسرائيلية، لا يزال هناك العديد من العقبات التي تحول دون تطبيع كامل للعلاقات بين الرياض وتل أبيب. ومن بين هذه العقبات:

  1. رفض الاحتلال لحل الدولتين: الكيان الصهيوني يرفض بشكل قاطع إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهو المطلب الذي تعلنه السعودية كشرط أساسي للتطبيع.
  2. الرفض الشعبي في السعودية: التطبيع مع الاحتلال يواجه رفضاً شعبياً واسعاً داخل المملكة، حيث لا تزال القضية الفلسطينية تمثل رمزاً للكرامة العربية.
  3. الأوضاع في غزة: الحرب الأخيرة على قطاع غزة كشفت للعالم الوجه الحقيقي للاحتلال، مما صعّب على النظام السعودي تبرير أي خطوة نحو التطبيع.
  4. التحديات الإقليمية: تطبيع العلاقات قد يؤدي إلى زعزعة التوازنات في المنطقة، خاصة مع استمرار التوترات بين السعودية وإيران.

تهجير الفلسطينيين ومخططات الاحتلال التوسعية

من بين السيناريوهات التي يجري الحديث عنها، محاولة تهجير سكان غزة إلى دول الجوار كالأردن ومصر، وهو مشروع أميركي-إسرائيلي يهدف إلى السيطرة الكاملة على القطاع. يسعى ترامب، من خلال هذا المخطط، إلى استغلال الموارد الطبيعية في غزة، خاصة الثروات النفطية في البحر المتوسط، وتحويل القطاع إلى جزء من “الممر الهندي الشرق أوسطي”، وهو مشروع اقتصادي يمتد من الهند إلى أوروبا عبر الخليج وإسرائيل.

بالإضافة إلى ذلك، يواصل الاحتلال تنفيذ خطط الضم التدريجي للضفة الغربية، معزّزاً الاستيطان وموسّعاً نطاق سيطرته الجغرافية، في تحدٍ صارخ للقرارات الدولية. هذه التحركات تأتي في ظل دعم أميركي غير محدود، حيث سبق لترامب أن اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مما يعكس موقفاً واضحاً من حل الدولتين.

خطوة محفوفة بالمخاطر

على الرغم من الضغوط الأميركية والإسرائيلية، يبقى تطبيع العلاقات مع الاحتلال خطوة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للنظام السعودي. فهي لا تهدد فقط مكانة المملكة الإقليمية والدولية، بل أيضاً استقرارها الداخلي، خاصة إذا ما تحوّل الرفض الشعبي إلى احتجاجات واسعة.

إن إقدام السعودية على هذه الخطوة سيُفسَّر على أنه تخلي عن القضية الفلسطينية وانحياز للمشروع الصهيوني، مما يضعها في مواجهة مباشرة مع الشعوب العربية والإسلامية، ويهدد بإثارة المزيد من الاضطرابات في المنطقة.

التطبيع ليس قدراً محتوماً

بينما يواصل النظام السعودي تردده بين الاستجابة للضغوط الأميركية والحفاظ على موقفه المعلن، يبقى التطبيع الكامل مع الاحتلال مسألة تتطلب مراجعة دقيقة. القضية الفلسطينية لا تزال حاضرة بقوة في وجدان الشعوب العربية، وأي محاولة لتجاوزها ستقابل برفض قاطع.

على السعودية أن تدرك أن التحالف مع الاحتلال لن يجلب لها سوى المزيد من العزلة والانتقادات. التاريخ لن يرحم من يتخلى عن حقوق الشعب الفلسطيني لصالح مشاريع توسعية واستعمارية تهدف إلى تكريس الاحتلال وقمع الشعوب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى